جارٍ تحميل التاريخ...

خطبة منبرية في موضوع “اَلْحَضُّ عَلَى مُرَاعَاةِ الْـمَصْلَحَةِ الْعُلْيَا لِلْوَطَنِ” ليوم 29 جمادى الأولى 1447 موافق 21 نونبر 2025 م

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه

خطبة ليوم الجمعة 29 جمادى الأولى 1447هـ الـموافق لـ 21 نوفمبر 2025م

((اَلْحَضُّ عَلَى مُرَاعَاةِ الْـمَصْلَحَةِ الْعُلْيَا لِلْوَطَنِ))

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي أرسل رسله مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتب آيات بينات لتنتظم بها حياة الناس أجمعين، نحمده تعالى على نعمه الجلى، ونشكره على آلائه العظمى، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الـميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان في كل وقت وحين.

أما بعد – أيها الـمؤمنون والـمؤمنات-؛ فإن من نعم الله تعالى علينا في هذا القطر الـمبارك، أن جمع لنا ما تقر به العين من عوامل الطمأنينة والاستقرار، ودوام الأمن والازدهار؛ من إمارة الـمؤمنين الساهرة على أمن الوطن والـمواطنين، والحامية لحدود الوطن وثغوره الـمختلفة؛ الـمادية منها والـمعنوية، ومن الثوابت الدينية الجامعة للأمة، والـموحدة لكلمتها ورؤيتها، والـمحافظة على أمنها الروحي، والرافضة لكل تشويش أو تضليل أو غلو أو تعطيل؛ مع ما ترسخ في وطننا عبر التاريخ من القيم والـمثل الكبرى، التي تعتبر رأس مال معنوي كبير في تاريخ الـمملكة الـمغربية؛ على مستوى العقيدة والفقه والتصوف والـمعاملات والسياسة الرشيدة.

وكل ذلك وغيره من الـمصالح الكبرى للوطن التي تجب الـمحافظة عليها؛ كل في مجاله ومسؤوليته وتخصصه، كما تجب مراعاتها عند تنازع الـمصالح الفردية والفئوية والحزبية والعرقية؛ فتقدم الـمصلحة العليا للوطن على كل مصلحة مهما كانت، وفي معنى ذلك يقول البارئ جل وعلا:

﴿إِنَّمَا اَ۬لْـمُومِنُونَ اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُۥ عَلَىٰٓ أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّىٰ يَسْتَٰذِنُوهُ﴾([1])؛

فجعل الله تعالى الأمر الجامع للناس مقدما على أمورهم الخاصة، ولا يجوز لأحد أن يتصرف بما يخالف الـمصلحة العليا للأمة، وإن كانت له فيه مصلحة خاصة؛ يقول الحق سبحانه:

﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ ا۪تَّقُواْ ا۬للَّهَ حَقَّ تُق۪اتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اِ۬للَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُواْ﴾([2]).

ولا يحتاج البيان القرآني لـمزيد بيان؛ إذ ربط سبحانه وتعالى بين الإيمان والتقوى وتوحيد الكلمة ووحدة الصف، وقد روى البخاري عن علي رضي الله عنه أنه قال ما معناه:

(إِنَّ رَجُلًا مِنَ الصَّحَابَةِ الْـمُهَاجِرِينَ –وَاسْمُهُ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ-، بَعَثَ بِرِسَالَةٍ إِلَى قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ فِيهَا بِمَجِيءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُ يَشْفَعُ لَهُ ذَلِكَ فِي حِفْظِ أُسْرَتِهِ، وَعَدَمِ التَّعَرُّضِ لَهَا فِي مَكَّةَ -وَهِيَ مَصْلَحَةٌ خَاصَّةٌ-، وَلَكِنَّ رِسَالَتَهُ إِلَيْهِمْ تُعَدُّ خِيَانَةً لِلْأُمَّةِ وَكَشْفًا لِسِرِّهَا، فَأَوْحَى اللهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَمْرِهِ، وَاسْتَرَدَّ الرِّسَالَةَ مِنَ الْـمَرْأَةِ الَّتِي حَمَلَتْهَا لِقُرَيْشٍ، وَنَهَاهُ أَنْ يَعُودَ لـِمِثْلِهَا، وَعَفَا اللهُ عَنْهُ لِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي حَقِّهِ:

 ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّے وَعَدُوَّكُمُۥٓ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْـمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ اَ۬لْحَقِّ يُخْرِجُونَ اَ۬لرَّسُولَ وَإِيَّاكُمُۥٓ أَن تُومِنُواْ بِاللَّهِ رَبِّكُمُۥٓ… اَلْآيَةَ﴾… اَلْآيَةَ ([3]))([4]).

وهكذا نهى القرآن الكريم عن إفشاء أسرار الأمة إلى أعدائها، وأوجب حفظها في جميع الأحوال، ولم يقبل من أحد مهما كانت مسوغاته أن يخون أمته ووطنه.

وإذا عرفنا أن الـمصلحة العليا للوطن هي مصلحتنا جميعا، وأن الـمستفيد منها هو الوطن والـمواطنون جميعا، فإن مما يجب التذكير به والحض عليه هو: أن يقوم كل واحد منا بمراعاة هذه الـمصلحة العليا في موقعه الذي هو فيه؛ استجابة لقول النبي صلى الله عليه وسلم:

«كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»([5]).

فتراعى مصلحة الوطن في حفظ الثغور وحفظ الحدود، وفي تعليم أبناء الأمة القيم الدينية والوطنية ومصالحه العليا؛ حتى يتربوا عليها ويعرفوها ويحرصوا على الـمحافظة عليها، وعلى حبهم لوطنهم وتطلعهم لخدمته؛ ومن أهم هذه الـمصالح الكبرى الوحدة الترابية للوطن، والثوابت الدينية والوطنية، كما تجب مراعاة الـمصلحة العليا للوطن في وسائل الإعلام الـمختلفة، والصحة والاقتصاد والتجارة وسائر الأمور الـمؤثرة من قريب أو من بعيد؛ خدمة للصالح العام؛ وقد روى البخاري عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

«مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اِسْتَهَمُواْ عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْاْ مِنَ الْـمَاءِ مَرُّواْ عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُواْ: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُواْ هَلَكُواْ جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُواْ عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْاْ وَنَجَوْاْ جَمِيعًا»([6])؛

فهذا الحديث يرسخ فكرة الـمسؤولية الجماعية، وأننا جميعا نعيش في سفينة واحدة، يقودها مولانا أمير الـمؤمنين -نصره اللـه وأيده-، ويجب أن نمنع كل من يريد أن يخرق سفينتنا أو يلحق بها ضررا؛ ذلك أن الـمحافظة على الوطن مسؤولية الجميع.

بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، وغفر لي ولكم ولسائر الـمسلمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالـمين.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالـمين، والصلاة والسلام على الـمبعوث رحمة للعالـمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

عباد الله؛ إذا علمنا أن الـمحافظة على الوطن مسؤولية الجميع، فلنسهر جميعا على احترام هذه الـمصالح العليا التي حبانا اللـه تعالى بها دون سائر الناس، ولنفتخر بها بكامل الاعتزاز، ولا نسمح لأحد أن ينال منها بالقول أو بالفعل؛ في أي مجلس من الـمجالس في الداخل أو في الخارج؛ وقد ضرب لنا الصحابة الكرام أروع الأمثلة في ذلك؛ منها ما رواه ابن هشام في سيرته

«أَنَّ الصَّحَابِيَّ الْجَلِيلَ زَيْدَ بْنَ الدَّثِنَّةِ رضي الله عنه لَـمَّا أَمْسَكَ بِهِ الْـمُشْرِكُونَ أَخْرَجُوهُ مِنَ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ. وَاجْتَمَعَ رَهْطٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فِيهِمْ أَبُو سُفْيَانَ ابْنُ حَرْبٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ حِينَ قُدِّمَ لِيُقْتَلَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا زَيْدُ؛ أَتُحِبُّ أَنَّ مُحَمَّدًا عِنْدَنَا الْآنَ فِي مَكَانِكَ نَضْرِبُ عُنُقَهُ، وَأَنَّكَ فِي أَهْلِكَ؟ قَالَ: وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ مُحَمَّدًا اِلْآنَ فِي مَكَانِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ تُصِيبُهُ شَوْكَةٌ تُؤْذِيهِ، وَأَنِّي جَالِسٌ فِي أَهْلِي»([7])

وكذلك كان الصحابة كلهم رضي اللـه عنهم؛ في فدائهم لنبيهم ودينهم ووطنهم وأمتهم؛

﴿أُوْلَٰٓئِكَ اَ۬لذِينَ هَدَى اَ۬للَّهُ فَبِهُد۪يٰهُمُ ا۪قْتَدِهْ﴾([8]).

هذا وصلوا وسلموا -عباد الله- على الهادي الأمين سيدنا محمد، فاللهم صل وسلم على سيدنا محمد كما تحب وترضى، وصل وسلم على سيدنا محمد بما هو أهله عندك، وارض اللـهم عن خلفائه الراشدين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن باقي الصحابة أجمعين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين يا رب العالـمين.

 وانصر اللـهم من قلدته أمر عبادك، وبسطت يده في أرضك وبلادك؛ مولانا أمير الـمؤمنين، صاحب الجلالة الـملك محمدا السادس نصرا تعز به الدين، وترفع به راية الـمسلمين، واحفظه اللـهم بما حفظت به الذكر الحكيم، وبارك له في الصحة والعافية، وأقر عين جلالته بولي عهده الـمحبوب؛ صاحب السمو الـملكي، الأمير الجليل مولاي الحسن، وشد أزر جلالته بصنوه السعيد؛ الأمير مولاي رشيد، وبباقي أفراد الأسرة الـملكية الشريفة، وارحم اللـهم الـملكين الجليلين؛ مولانا محمدا الخامس ومولانا الحسن الثاني، اللـهم طيب ثراهما، وأكرم مثواهما، واجعلهما في مقعد صدق عندك، وارحم -اللـهم- آباءنا وأمهاتنا وسائر موتانا وموتى الـمسلمين.

اللـهم اجعل بلدنا هذا بلدا آمنا مطمئنا وسائر بلاد الـمسلمين، اللـهم بارك لنا في أرزاقنا؛ من تجارة وزراعة وصناعة وغير ذلك من أسباب الرزق الذي ضمنته لعبادك، وارفع اللـهم عنا القحط والبلواء والأمراض وسائر الفتن، وأدم علينا الرخاء والأمن والسكينة والرقي والازدهار.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون.

وسلام على الـمرسلين.

والحمد للـه رب العالـمين.

 

([1]) سورة النور؛ الآية رقم: 60.

([2]) سورة آل عمران؛ الآية رقم: 102 و103.

([3]) سورة الممتحنة؛ الآية رقم: 01.

([4]) رواه البخاري/ كتاب الجهاد والسير/ باب الجاسوس؛ رقمه في منصة الحديث: 4312.

([5]) رواه البخاري/ كتاب الأحكام / رقم الحديث في منصة الحديث: 9162.

([6]) صحيح البخاري/كتاب الشركة؛ رقمه في منصة الحديث: 65.

([7]) كتاب (سيرة ابن هشام) لعبد الملك بن هشام (ت 213 هـ)، الجزء: 02، الصفحة: 172.

([8]) سورة الأنعام؛ الآية رقم: 91.

شاهد أيضا

تصنيفات

At vero eos et accusamus et iusto odio digni goikussimos ducimus qui to bonfo blanditiis praese. Ntium voluum deleniti atque.

Melbourne, Australia
(Sat - Thursday)
(10am - 05 pm)