بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه
خطبة ليوم الجمعة 5 رجب 1447ه الموافق لـ 26/12/2025م
“الحرص على الوفاء بجميع أنواع العقود“
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، نحمده سبحانه وتعالى ونستغفره ونتوب إليه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أثنى على الصالحين من عباده، فقال:
﴿ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمُۥٓ إِذَا عَٰهَدُواْۖ ﴾[1]
، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، أفضل من أوفى بعهده، ونفى كمال الإيمان على من لا عهد له، فقال صلى الله وسلم عليه:
«لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له»[2]
. صلى الله وسلم عليه بما هو أهله، وعلى آله الطيبين الأوفياء، وصحابته الكرام الأتقياء، وعلى التابعين لهم في رعاية العهد وحسن الوفاء.
أما بعد؛ أيها المؤمنون والمؤمنات، فإن مما يجدر التذكير به في إطار “خطة تسديد التبليغ” التأكيدَ على وجوبِ الوفاء بكل أنواع العقود، امتثالا لقول الله تعالى في محكم التنزيل:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِۖ ﴾[3]
عباد الله؛ لقد خص الله تعالى أهل الإيمان بهذا النداء الرباني، فأمرهم سبحانه بالوفاء بالعقود؛ وهي العهود.
والعقود في الآية جامعة لكل عقد وعهد أخذه المسلم على نفسه. ابتداء من عقد التوحيد والإيمان الرابط بين العبد وربه جل وعلا، وما يقتضيه من التفويض والتسليم لله في كل شأن من شؤونه، ومن التخلي عن هوى النفس وأنانيتها، وما يستوجب من العمل الصالح المبني على الإخلاص والإتقان في سائر الأحوال، وانتهاء بأصغر عقد تعاقد به مع أحد من الناس، ولا صغير في العقود، فكلها عظيمة ومسؤول عنها صاحبها لوجود حقوق الناس فيها، كما قال الحق سبحانه:
﴿ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ اَ۬لْعَهْدَ كَانَ مَسْـُٔولاٗۖ ﴾[4]
. أي؛ مسؤول صاحبه عن الوفاء به أو عدمه.
والوفاء بالعهد من أجلِّ صفات الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، كما قال تعالى عن إمام الموحدين:
﴿ وَإِبْرَٰهِيمَ اَ۬لذِے وَفّ۪يٰٓ ﴾[5]
. وكان من الوصايا العشر التي ذكرها الحق في سورة الأنعام الوفاء بالعهد، كما قال جل من قائل:
﴿ وَبِعَهْدِ اِ۬للَّهِ أَوْفُواْۖ ﴾[6]
. وهو كذلك من صفات المؤمنين كما في قوله سبحانه:
﴿ وَالذِينَ هُمْ لِأَمَٰنَٰتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَٰعُونَۖ ﴾[7].
وفي الحديث النبوي الشريف قال رسول الله صلى الله وسلم عليه:
«اضمنوا لي ستا أضمنْ لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم»[8].
والوفاء بالعهد صفة لازمة للمؤمن؛ إذ لا يخرج من عهد إلاَّ إلى عهد آخر، من عهد الله تعالى في عبادته، إلى عهد الوالدين في برهما والإحسان إليهما، والزوجة والأولاد في المودة والشفقة والنفقة والسعي عليهم، إلى عهد الجار والمحافظة على حسن الجوار، إلى عهد العمل والوفاء لرب العمل والإتقان فيه، إلى عهد كل من له به علاقة لسبب أو لآخر.
ولذا قال الحق سبحانه بصيغة اسم الفاعل الدال على الاستمرار:
﴿ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمُۥٓ إِذَا عَٰهَدُواْۖ ﴾[9].
وهكذا يشمل الوفاء بالعهد سائر مناحي الحياة، ومن ثمار اتصاف المؤمن بهذه الفضيلة والوفاء بها أن يسعد المسلم ويسعد معه غيره، ويعيش حياة طيبة ملؤها الوفاء والمحبة والسخاء والأمن والاطمئنان.
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبحديث سيد الأولين والآخرين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله ولي الصالحين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد إمام المتقين وأسوة الصادقين، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها المؤمنون والمؤمنات؛ إن الوفاء لله تعالى يقتضي الإيمان به وطاعته وامتثال أمره واجتناب نهيه، وهو ما مدح به قوما من عباده حيث قال:
﴿ مِّنَ اَ۬لْمُومِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ اُ۬للَّهَ عَلَيْهِۖ فَمِنْهُم مَّن قَض۪يٰ نَحْبَهُۥ وَمِنْهُم مَّنْ يَّنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاٗ﴾[10].
كما يقتضي الوفاء بالعهد لأمير المؤمنين الإخلاصَ في العمل والقيام بالواجب المنوط بكل واحد منا على أحسن وجه وأكمله، لقوله تعالى:
﴿ اِنَّ اَ۬لذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اَ۬للَّهَ يَدُ اُ۬للَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْۖ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَيٰ نَفْسِهِۦۖ وَمَنَ اَوْف۪يٰ بِمَا عَٰهَدَ عَلَيْهِ اِ۬للَّهَ فَسَنُوتِيهِ أَجْراً عَظِيماٗۖ ﴾[11].
ثم الوفاء بالعقد الذي يربط بين أفراد المجتمع الواحد، والممثل في الدستور وما تفرع عنه من العهود والمواثيق، التي تسهر على المشترك من الأمور الجامعة للأمة كالوحدة الترابية وحماية الوطن والمواطنين، وتحافظ على الثوابت الدينية والوطنية، كما تضمن حقوق الأفراد في جميع مناحي حياتهم.
ثم الوفاء بالعهد لكل مسلم يقتضي كذلك الوفاء لكل عهد أخذه على نفسه إذ يعتبر عقد الزواج بين الزوجين عهدا، سماه القرآن الكريم “الميثاق الغليظ”، أو عقود المعاملات المختلفة بين الناس، التي يجب فيها الصدق والبيان وحب الخير للغير، مع السلامة من الغش ومن أكل أموال الناس بالباطل، أو أي عقد كان، وبأي شكل من أشكال العهود والمواثيق، سواء كانت بين الأفراد أو بين الهيئات، أو بين الدول، أو بين المسلم وغيره، فلا يجوز نقض العهد لأي كان، وعلى أي دين كان.
فالعهد مسؤول صاحبه، كما قال الحق سبحانه:
﴿ إِنَّ اَ۬لْعَهْدَ كَانَ مَسْـُٔولاٗۖ ﴾[12].
ألا فاتقوا الله، عباد الله؛ وأكثروا من الصلاة والسلام على خير الموفين بالعهد، الصادق في كل شؤونه سيدنا محمد، فاللهم صل وسلم على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت وسلمت على سيدنا إبراهيم، وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم، وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين؛ أبي بكر وعمر عثمان وعلي، وعن باقي الصحابة من المهاجرين والأنصار، وعن التابعين لهم بإحسان. وعنا معهم برحمتك يا رب العالمين.
وانصر اللهم عبدك الخاضع لجلالك وسلطانك، مولانا أمير المؤمنين وحاميَ حمى الملة والدين، جلالة الملك محمدا السادس نصرا عزيزا تعز به أهل طاعتك، وتذل به أهل معصيتك، واحفظه اللهم بحفظ كتابك، وأقر عين جلالته بولي عهده المحبوب صاحب السمو الملكي، الأمير الجليل مولاي الحسن، وشد أزر جلالته بشقيقه السعيد، صاحب السمو الملكي الأمير الجليل مولاي رشيد، وبباقي أفراد الأسرة الملكية الشريفة، إنك سميع مجيب.
وارحم اللهم الملكين الجليلين مولانا محمدا الخامس، ومولانا الحسن الثاني، اللهم طيب ثراهما، وأكرم مثواهما، واجعلهما في أعلى عليين.
اللهم اغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا، ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا إنك رءوف رحيم.
اللهم ربنا آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
[1] – البقرة 176.
[2] – رواه الإمام أحمد في مسنده 19/376 وابن أبي شيبة في مصنفه 6/336 وغيرهم…
[3] – المائدة 1.
[4] – الإسراء 34.
[5] – النجم 36.
[6] – الأنعام 153.
[7] – المؤمنون 8، والمعارج 32.
[8] – صحيح ابن حبان: التقاسيم والأنواع» النوع السابع والخمسون من القسم الأول من أقسام السنن وهو: الأوامر من جماع أنواع الأوامر عن المصطفى صلى الله عليه وسلم.
[9] – البقرة 176.
[10] – الأحزاب 23.
[11] – الفتح 10.
[12] – الإسراء 34.




