جارٍ تحميل التاريخ...

حقيقة الشكر – ذ.محمد بوشركة

النسخة المكتوبة

انطلاقا من قوله تعالى:

 {قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّے لِيَبْلُوَنِيَ ءَآشْكُرُ أَمَ اَكْفُرُۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِۦۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّے غَنِيّٞ كَرِيمٞۖ} [النمل: 41].

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي المصطفى الأمين، وعلى آله وصحابته والتابعين.

أما بعد فيا أيها السادة الأئمة الفضلاء.

حديثي معكم اليوم سيكون عن الشكر عند البلاء، وذلك انطلاقا من قول ربنا سبحانه وتعالى في سورة النمل:

{قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّے لِيَبْلُوَنِيَ ءَآشْكُرُ أَمَ اَكْفُرُۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِۦۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّے غَنِيّٞ كَرِيمٞۖ} [النمل: 41].

وسنتناول هذا المقطع من الآية الكريمة من خلال أربع وقفات:

1- الوقفة الأولى: تتعلق بالمقطع الأول في الآية نفسها وهو قوله تعالى:

{قَالَ اَ۬لذِے عِندَهُۥ عِلْمٞ مِّنَ اَ۬لْكِتَٰبِ أَنَآ ءَاتِيكَ بِهِۦ قَبْلَ أَنْ يَّرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَۖ فَلَمَّا ر۪ء۪اهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُۥ…} [النمل: 41].

قال ابن كثير: “قال مجاهد، وسعيدُ بن جبير، ومحمدُ بن إسحاق، وزهير بن محمد، وغيرُهم: لما دعا الله عز وجل، وسأله أن يأتيه بعرش بِلقيس -وكان في اليمن، وسليمان عليه السلام ببيت المقدس- غاب السرير، وغاص في الأرض، ثم نبع من بين يدي سليمان عليه السلام”[1].

قال القرطبي: “قال ابن عَطية: والذي عليه الجمهور من الناس أنه رجل صالح من بني إسرائيل اسمه آصَفُ‏ بْنُ‏ بَرْخِيَا روي أنه صلى ركعتين، ثم قال لسليمان: يا نبي الله امدد بصرك فمد بصره نحو اليمن فإذا بالعرش، فما رد سليمانُ بصرَه إلا وهو عنده”[2].

قال الإمام ابن عاشور: “وهذه المناظرة بين العفريت من الجن والذي عنده علم من الكتاب ترمز إلى أنه يتَأتَى بالحكمة والعلم ما لا يتأتى بالقوة، وأن الحكمة مكتسبة لقوله عز وجل: {عِندَهُۥ عِلْمٞ مِّنَ اَ۬لْكِتَٰبِ…}

فذكر في هذه القصة مثلا لتغلب العلم على القوة، ولما كان هذان الرجلان مسخرين لسليمان كان ما اختصا به من المعرفة مزية لهما ترجع إلى فضل سليمان وكرامته أن سخر الله له مثل هذه القُوى ومقام نبوته يترفع عن أن يباشر بنفسه الإتيان بعرش بِلقيس”. انتهى كلامه[3].

فهذا المقطع من الآية – أيها السادة الكرام – يجلي لنا مظهرا من مظاهر التكريم الإلهي لسيدنا سليمان عليه السلام، فهذا واحد من رعيته عنده هذه القوة والقدرة ليأتي بعرش بِلقيس من بلد إلى آخر في لحظة، فكيف بقدرة هذا النبي والملِك نفسِه: مُلك وقوة وقدرة عظيمة تستحق كل حمد وشكر وثناء للمتفضل سبحانه وتعالى، كيف لا وسليمان عليه السلام هو الذي قال: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّاب} [ص: 35].

2- الوقفة الثانية أيها السادة الأئمة الفضلاء؛ مع قوله تعالى: {قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّے}.

قال الإمام الطبري: “يقول (أي سليمان): هذا البصر والتمكن والملك والسلطان الذي أنا فيه حتى حُمِل إليّ عرشُ هذه في قدر ارتداد الطَرْفِ من مأرب إلى الشام، من فضل ربي الذي أفضاله عليّ وعطاؤه الذي جاد به علي، ليبلوني، يقول: ليختبرني ويمتحنني، أأشكر ذلك من فعله عليّ، أم أكفر نعمته عليّ بترك الشكر له”[4].

وقال الإمام البَغَوي: “{قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّے لِيَبْلُوَنِيَ ءَآشْكُرُ} نعمه {أَمَ اَكْفُرُۖ} فلا أشكرها، {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِۦۖ} أي: يعود نفع شكره إليه، وهو أن يستوجب به تمام النعمة ودوامها، لأن الشكر قيد النعمة الموجودة، وصيد النعمة المفقودة”[5].

ويلاحظ أيها السادة أن بعض الناس يضعون لوحات في بيوتهم ومتاجرهم كتب عليها: {قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّے} من باب شكر المنعم وهو أمر حسن، لكنهم ينسون ما بعد هذا وهو قوله سبحانه من باب الاختبار: {لِيَبْلُوَنِيَ ءَآشْكُرُ أَمَ اَكْفُرُ}.

فالاعتراف بالنعمة أمر مهم، لكن الأهم منه هل العبد شاكر لهذه النعمة بقلبه ولسانه وجوارحه؟

3- الوقفة الثالثة: مع قوله تعالى: {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِۦۖ} [النمل: 41].

{وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِۦۖ} أي: يعود نفع شكره إليه، وهو أن يستوجب به تمام النعمة ودوامها، لأن شكر النعمة سبيل لحفظها، والمعصية سبيل ضياعها، ولله در من قال:

إِذا كُنتَ في نِعمَةٍ فَارعَها      فَإِنَّ المَعاصي تُزيلُ النِعَم

وَحافِظ عَلَيها بِتَقوى الإِلَهِ      فَإِنَّ الإِلَهَ سَريعُ النِّقَم

فَإِن تُعطِ نَفسَكَ آمالَها         فَعِندَ مُناها يَحِلُّ الندم

4- الوقفة الرابعة: مع قوله تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّے غَنِيّٞ كَرِيمٞۖ} [النمل: 41].

قال الإمام ابن كثير:[6] “قوله: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّے غَنِيّٞ كَرِيمٞۖ} أي: هو غني عن العباد وعبادتهم، {كريم} أي: كريم في نفسه، وإن لم يعبده أحد، فإن عظمته ليست مفتقرة إلى أحد، وهذا كما قال موسى: {إِن تَكْفُرُوٓاْ أَنتُمْ وَمَن فِے اِ۬لَارْضِ جَمِيعاٗ فَإِنَّ اَ۬للَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌۖ} [إبراهيم: 10].

وفي صحيح مسلم: “يقول الله تعالى: يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه”[7].

والحاصل مما سبق: أن كل متقرب إلى الله بعمل صالح يجب أن يستحضر أن عمله إنما هو لنفسه يرجو به ثواب الله ورضاه في الآخرة، ويرجو دوام التفضل من الله عليه في الدنيا، فالنفع حاصل له في الدارين ولا ينتفع اللهُ بشيء من ذلك.

فاللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، واجعلنا من المنفقين المتقين المخلصين.

آمين والحمد رب العالمين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 


[1]تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض، السعودية، 6/193

[2] الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار الكتب المصرية، القاهرة، 13/206.

[3] التحرير والتنوير محمد الطاهر بن عاشور، الدار التونسية للنشر، تونس، 19/271

[4] جامع البيان عن تأويل آي القرآن، الطبري، دار التربية والتراث، مكة المكرمة، 19/468

[5] معالم التنزبل في تفسير القرآن، البغوي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 3/506.

[6] تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض، السعودية، 6/193.

[7] صحيح الإمام مسلم، ت، محمد فؤاد عبد الباقي، ط، عيسى البابي الحلبي، القاهرة، 4/1994، رقم الحديث 2577.

 

شاهد أيضا

تصنيفات

At vero eos et accusamus et iusto odio digni goikussimos ducimus qui to bonfo blanditiis praese. Ntium voluum deleniti atque.

Melbourne, Australia
(Sat - Thursday)
(10am - 05 pm)