جارٍ تحميل التاريخ...

ثقافة الإمام- 6 – ذ. عبد اللطيف الميموني

النسخة المكتوبة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرحمة المهداة والنعمة المسداة سيدنا ونبينا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه واتبع هداه،

معاشر الأئمة الفضلاء الأعزاء،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، حديثنا بعون الله وقوته في هذه الحصة بعنوان:

ثقافة الإمام في التبليغ

فبما أن عددا كثيرا منكم –يا إخواني- يجمع بين الإمامة في الصلوات الخمس وصلاة الجمعة، اقتضى المقام أن ينال هذا الجانب حظه من العناية، فحينما تكون أيها الإمام مكلفا بمهمة خطبة الجمعة ينبغي أن تضع نصب عينيك أنك تعتلي منبر رسول الله ﷺ، ومن ثم فإن أمانة الرسالة والتبليغ تقتضي أن تستشعر قدر هذه الأمانةِ وثقلَ هذه المسؤولية، فالكلمة في الجمعة، ليست أمرا يسيرا، لذلك فأنت أيها الإمام الخطيب مطالب بأمور منها:

1-  إيلاء عناية كاملة للخطبة وموضوعِها وأبعادها ومقاصدها، وقد كفيت أمر إعدادها واختيارَ موضوعاتها، في هذا الوقت، للمصلحة العليا، لكنك لم تُكفَ أمرَ الإحسان في قراءتها بتأنّ وتفاعل مع محتوياتها، وتأمُّل في معانيها ومضامينها ووقوفٍ عند مصطلحاتها، ويكون ذلك قبل يوم الجمعة، فذلك أدعى إلى نجاحك في إلقائها.

فحسن الإلقاء من أهم أركان الخطبة الناجحة وصفات الخطيب الناجح.

فتجنب، أخي الخطيب، إماتة الخطبة عند إلقائها حتى تصبح كلاما بلا روح ولا أثر، ومن ثم ينعدم التأثير ويضعُف جلبك لانتباه الناس، وبالتالي تضيع رسالة الخطبة ورسالة المنبر، لا قدر الله، فتكون الخطبة مجردَ عادة شكلية لا يجني الناس من ورائها نفعا تربويا، بل سيحصل لهم الملل والانصراف الذِّهني عن الخطيب إلى الانشغال عنه بأمور أخرى، وربما يؤدي بهم الحال إلى ترك صلاة الجمعة، فتكون أيها الخطيب أنت السببَ فيما حصل من حيث تشعر أولا تشعر.

ومما يسبب فيما ذكرت:

-ضعف صوت الخطيب وانخفاضُه جدا، أو كونُه بنبرة واحدة يمَلُّها السامعون.

-عدم التفاعل مع معاني الخطبة حتى تظهر على ملامح الخطيب وحركاته بوسطية واعتدال وأدب.

2-  العمل على حسن تنزيلها في واقع الناس؛ سواء في الحواضر أو في القرى والمداشر، بأن تكون متمثلا لمضامينها في حالك ومقالك، بصدق وإخلاص، وتجرد عن كل ما من شأنه أن يُدخل التشويش على رسالة المنبر.

فإنه يقال: “حال رجل في ألف رجل أبلغ من مقال ألف رجل في رجل”.

3-  إن الإمام، ساداتي الفضلاء، ليس كغيره من عامة الناس، فقد يُغتفر لغير الإمام ما لا يباح للإمام، وذلك داخل في باب المروءة، كما جاء على لسان الإمام ابن عاصم رحمه الله:

والعدل من يجتنب الكبائرا****ويتقي في الغالب الصغائرا

وما أبيح وهو في العيان****يقدح في مروءة الإنسان

وذلك مثلُ العناية بالهندام المتعارف عليه في مغربنا من لبس جلباب وسلهام أبيض، وتغطية الرأس،  وما يتبع ذلك حتى يظهرَ للناس في حلة تليق بالنيابة عن رسول الله ﷺ، وعن الإمام الأعظم، فضلا عن ترفعه عن المدنسات أو الشبهات؛ وأن يضع في حسبانه أن الناس يتبعون خطواته، لأنه قدوتهم، ويلتمسون البركة والدعاء منه، ويقصدونه للسؤال عن أمور دينهم، لأنه ضامن مؤتمن، كما قال ﷺ، وهو ثقة لذلك جرت عادة الناس أن يُفشوا لإمامهم من أسرارهم ما لا يفشون لغيره، لما يرجون من حسن توجيهه وسداد رأيه، ولما يعلمونه منه من حب الخير لجميع الناس، والحرصِ على إدخال الفرح والسرور عليهم بكلمته الطيبة ونصحه الصادق السديد.

وهذا يدل على قدر كبير من مكارم الأخلاق التي يتميز بها الإمام والخطيب، اقتداء برسول الله ﷺ الذي كان خلقه القرآن، فهكذا كل من ينوب عنه في تبليغ كلمة الله للناس، ينبغي أن يتحلى بسمو الأخلاق والصفات، بعد التخلي عن سفاسفها التي تحول دون كلمته لتصل الى قلوب الناس.

فالخلق الحسن في الخطيب هو سر نجاحه، فيكون نموذجا حيا يُقتدى به، إذ يصدقه الناس فيما يدعوهم إليه، من الصدق والوفاء والحياء وحسن الظن وسلامة اللسان، والتواضعِ والرفق واللين والاحترام، وكلما حسنت أخلاق الإمام والخطيب، حقق في رسالته الهدف الأسمى من الخطبة، وهو تزكية المخاطَبين وربطُهم بالله تعالى، وتقويمُ سلوكهم وتحليتُهم بالفضائل وتخليتهم عن الرذائل، وتفقيهُهم في دينهم، في كل ما يحتاجونه، سواء في باب المعتقدات أو العبادات، أو المعاملات، أو السلوك، حتى يكونوا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

فالخطيب؛ بالإحسان في خطابه وحسن خلقه يربي في الناس حبَّ خدمة دينهم ووطنهم، يسترخصون في سبيل ذلك كل غال ونفيس، حفاظا على هوية البلد ووحدته العقدية والفقهية والتربوية، وَفق التوجيهات السامية لمولانا أمير المؤمنين حفظه الله وأيده، رئيس المجلس العلمي الأعلى، وأولى الناس تمسكا بتلك التوجيهات هو الخطيب،  من أجل الحفاظ على ثوابت الأمة، ووحدة مرجعيتها، وحمايتها من التفرق والاختلاف المذموم، ولاسيما في شؤون الدين؛ ولا يحقق الخطيب هذه الأمورَ ولا يرقى إلى هذا المقام إلا إذا تحققت فيه روحُ المسؤولية، وتقديرُ الرسالة حق قدرها، واستشعارُ أنه مسؤول أوّلا أمام الله تعالى، عن كل تصرف يصدر منه قوليا كان أو فعليا، ثم هو مسؤول أمام الأمة التي استأمنته على دينها، تُنصت إليه كل جمعة وتأخذ برأيه، وتعتبره حارسا على دينها وناصحا أمينا لها.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي المتاحة للناس حاليا تقرب كل بعيد، وتضع أحوال العالم على الكف (الهواتف النقالة)، وكما لا تخفى فوائدها الجمة لا غنى لأحد عنها، فإنه ينبغي التعامل معها بحذر شديد، لكونها تتحول في بعض الأحيان إلى ألغام، حتى لا يقعَ مستعملُها وخاصة الإمام –باعتباره متبوعا لا تابعا- أن يدنس طهرَ هذه السمعة بالوقوع في محظور ربما عن غفلة أو جهل مما هو غير متمكن من آلياته.

4-  استثمار السمت الحسن؛ فهو مظهر من مظاهر هيبة الخطيب ووقاره، ويتجلى السمت الحسن في الإمام والخطيب في أمور متعددة أذكر منها ما يأتي:

-الوقار والسكينة دون أي عبث أو طيش؛

-النظافة وحسن المظهر في لباسه وجميع شؤونه؛

– الجدية والاحترام، وعدم المبالغة في الأمور الهزلية مع جميع طبقات الناس، كما قال الإمام البوصيري رحمه الله تعالى في وصف النبي ﷺ:

رحمةٌ كلُّه وحزْم وعزم****ووقارٌ وعصمةٌ وحياء

لا تحُل البأساء منه عٌرى الصّـ****ـبر ولا تستخفُّه السراء

بمعنى أن صفات الشخص الكريم، ذي النفس الكريمة التي لا تعكر صفوَها المصاعبُ ولا تستفزُّه الملذات، فهو مترفِّع ومتسامٍ عن الأمور الدنيوية وسفاسفها.

وهكذا شخصه ﷺ لا تؤثر فيه الظروف والأحوال، وهذا هو الذي ينبغي للخطيب؛ أن يكون متمتعا بالرزانة والتؤدة، بعيدا عن الخفة والطيش، لأنه إمام وقدوة، موصوف بالحكمة في التعامل مع الساكنة والجماعة خاصة مع بعض المخالفين أو المشوشين استرشادا بأخلاق النبي ﷺ في التعامل مع أمثال هؤلاء، فقد ترك لنا ﷺ في سيرته ما يكون منهاجا لنا في احتواء المخالف واحتضانه، على الأقل أن تجعله لا يشوش عليك، وهو السلوك الحضاري الذي يتميز به الإسلام، من العدل والرحمة والرفق، والصبر على الأذى، والحوار بالتي أحسن، وإعطاء كل حالة ما يناسبها.

فالمعاند يعامل بالحزم وهنا يتدخل وازع السلطان، والجاهل يعامل بالرفق والحلم حتى يتعلم، وهو من صميم عمل وازع القرآن، وهذا يقي من اتخاذ موقف سلبي –إن حصل- ذريعة لهِجران المسجد إضافة إلى غياب متكرر عن الخطبة، أو إنابة من ليس مؤهلا لهذه المهمة النبيلة الشريفة، وإذا رجعنا إلى سيرة الرسول ﷺ نجده يراعي هذا الأمر فكان ينيب كثيرا أبا بكر الصديق، وعبد الله ابن أم مكتوم، رضي الله عنهما.

ومما ينبغي للخطيب التخلق به: قبول النصح والتوجيه فقد يكون عنده نقص في الإلقاء أو في غيره، فليكن عنده استعداد لقَبول النصح والتعديل، شعاره الكلمة العمرية: “رحم الله امرأ أهدى إليّ عيوبي”.

وهذا من المقاصد التي تهدف إليها خطة تسديد التبليغ التي انفردت بها بلانا بفضل الله تعالى، وهي منحة ربانية إذا أحسنا استثمارها في التسديد، بكل تجرد وإخلاص لله تعالى في القول والعمل، راجين الله تعالى والدار الآخرة، طامعين في الثواب الذي وعد به رسول الله ﷺ، مُعلمَ الناس الخيرَ، ففي الحديث: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ حَتَّى النَّمْلَةُ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوت فِي الْبَحْرِ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ»[1] .

فاستعينوا بالله تعالى وفقكم الله، وأخلصوا لرسالة خطبة الجمعة واجعلوها موضع المكانة اللائقة بها، إعدادا وإلقاء وفهما وتخلقا بمضامينها، كما هو معهود فيكم، لكنَّ الإلحاحَ على هذا والتذكيرَ به فمن باب الرجاء في زيادة عطاء أئمتنا نفعا لأمتنا.

هذا وصلى الله على سيدنا ونبينا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم.

والحمد لله رب العالمين.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته


[1] رواه الحافظ ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله:1 / 174. نشر دار ابن الجوزي. سنة: 1994.

 

شاهد أيضا

تصنيفات

At vero eos et accusamus et iusto odio digni goikussimos ducimus qui to bonfo blanditiis praese. Ntium voluum deleniti atque.

Melbourne, Australia
(Sat - Thursday)
(10am - 05 pm)