النسخة المكتوبة
أيها السادة الأئمة الكرام، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
قبل الحديث عن الضوابط والكليات أقول:
سبق لنا في الحصة الماضية التذكير بأن بعض الفقهاء لم يلتزموا بقصر مصطلح “قاعدة” على المتعارف عليه من كونها قضية كلية وبعض ما سبقت الإشارة إليه، ومنهم الإمام العلم القرافي صاحب الذخيرة وغيرها من نفائس الكتب…
والآن أعيد التذكير بنماذج من الإطلاقات التوسعية في مفهوم القاعدة.
من إطلاقات الفقهاء لمصطلح “قاعدة”:
بعض الفقهاء من لم يلتزموا بضوابط التقعيد كما هي في خصوص إطلاق مصطلح ” قاعدة” فقد أطلقوها على أمور منها:
¯أقسام الشيء؛
¯أشياء محصورة في عدد؛
¯أسباب الشيء؛
¯شروط الشيء؛
¯حكم شيء بعينه…
وكل ذلك من التوسع في الإطلاق، نعم منه ما يؤول بالتأويل إلى قاعدة كلية. فمن أمثلة الإطلاقات التوسعية ما يلي:
¯قاعدة: “التكاليف على قسمين: أوامر ونواه…”[1]
¯قاعدة: “المشاق قسمان: …”[2]
¯قاعدة: “خمس اجتمعت الأمة المحمدية على حفظها…”[3]
¯قاعدة: “الموالاة شرط في الصلاة بالإجماع”[4].
¯قاعدة: “أسباب الضمان ثلاثة…”[5].
¯قاعدة: “السبب الرابع الخوف”[6] وذلك في بيان أسباب الجمع بين الصلاتين.
¯قاعدة: “نصب الله تعالى الأوقات أسبابا للأحكام”[7].
“معنى الضوابط والكليات الفقهية”
ونتناول في حصة اليوم مصطلحين آخرين يستعملان استعمال القاعدة الفقهية من حيث المنهج وإن خالفاها باعتبار آخر.
ونبدأ بالضوابط الفقهية فنقول – باختصار والله الموفق -:
بما أن “الضوابط الفقهية” مركب وصفي فإننا نتحدث عن الموصوف والصفة ثم الصيغة التركيبية فنقول في تقريب معناه بإشارات تغني الإمام عن كثير من الكلام:
الضابط لغة:
يدور معنى الضبط على الحفظ والحزم والتمكن من الشيء…
وهذا ما يلخصه صاحب التاج من معنى الضبط والضابط لغة في كلام نكتفي منه بما يلي: “ضبطه يضبطه ضبطا وضباطة، بالفتح: حفظه بالحزم، فهو ضابط، أي حازم”. وقال الليث: “ضبط الشيء: لزومه لا يفارقه، يقال ذلك في كل شيء”.
وضبط الشيء: حفظه بالحزم. وقال ابن دريد: “ضبط الرجل الشيء يضبطه ضبطا، إذا أخذه أخذا شديدا…”[8]
وفي الاصطلاح:
يطلق مصطلح الضابط الفقهي على القضية الكلية الخاصة بباب واحد من أبواب الفقه، بخلاف القاعدة الجاري عمومها في أبواب فقهية.
ومن علمائنا من لم يفرق بين القاعدة والضابط، فجمع كلا وسمى كلا “قاعدة”، فعبر عن الضوابط بالقواعد، أو ذكر الضوابط ضمن القواعد من غير تمييز لها عن القواعد.
فمن العلماء الذين فرقوا بين القاعدة والضابط العلامة البُناني المالكي في حاشيته على شرح المحلي لجمع الجوامع إذ قال – ناقلا عن غيره مقرا له بسكوته -:
“والقاعدة لا تختص بباب واحد بخلاف الضابط”[9] .
ومن المعروف أن من سكت عن نقوله فهي من مقوله، مع مراعاة سياق الكلام وسباقه.
وممن ينسب إليه السبق إلى هذا تاج الدين السبكي في قوله: القاعدة هي الأمر الكلي الذي ينطبق عليه جزئيات كثيرة تفهم أحكامها منه، ومنها مالا يختص بباب واحد كقولنا: “اليقين لا يرفع بالشك”، ومنها ما يختص كقولنا: “كل كفارة سببها معصية فهي على الفور”.
ثم قال “والغالب فيما اختصَّ بباب وقصد به نظم صور متشابهة أن يسمى ضابطا “[10]
وبعض فقهائنا يطلقون عليه لفظ قاعدة، وعلى ذلك السياق يأتي صنيع الإمام الزقاق الذي رتب القواعد وصنفها حسب أبواب الفقه، فظهر من صنيعه تشبيه القواعد بالضوابط، والمعروف سريان القواعد في أبواب متعددة عكس الضوابط.
ولشارحه المنجور إشارة تتضمن عدم اعتبار الفارق بينهما حين قال:
والقواعد: جمع قاعدة: وهي في اللغة: الأساس… وفي العرف هي: الأصل والضابط، والقانون: أمر كلي منطبق على جزئياته لتعرف أحكامها منه[11].
ويعني بالعرف هنا العرف الخاص عند الفقهاء في مدلول لفظ: “قاعدة” ففهم من كلامه التسوية بين مصطلحات: “القاعدة” و”الأصل” و”الضابط” و “القانون”.
وذكر العلامة المنجور أن “القواعد على قسمين:
الأول: ما هو أصول لأمهات مسائل الخلاف.
والثاني: من القسمين ما هو أصول المسائل، فيقصد بقواعده ذكر النظائر فقط لا مع الإشارة إلى خلاف…”[12]
والإمام المَقري ذكر مصطلح “الضوابط” ووصفها بالخاصة في تعريفه السابق للقاعدة؛ ولعل ذلك إشارة إلى أنها من جنس القواعد وتمتاز بالخصوص حين تمتاز القواعد بالعموم.
وممن يفهم من كلامه عدم الاهتمام بالفرق بينهما -من حيث كلية القضيتين في النوعين- العلامة العدوي في حاشيته على شرح الخرشي لمختصر الشيخ خليل رحمه الله تعالى إذ قال في سياق له: “…والإضافة حقيقية إن أريد من العلم الملكة أو الإدراك، فإن أريد القواعد والضوابط فهي عين المسائل أي الكلية.”[13]
وجعل بعض أهل العلم مصطلح الضابط مقرونا بكلمة “كل” وبها يفرق في نظره بين الضابط المراد هنا وبين الضابط بمعنى التعريف على ما سنبينه، وهذا ما فهمه بعض المحققين من صنيع بعض شراح ابن الحاجب في مختصره الأصلي عند تعريف مسلك الإيماء[14].
مثال الضابط الفقهي:
“كل من لا يرث لا يحجب وارثا إلا الإخوة مع الأم”، فهو خاص بباب الفرائض.
وكقولهم: “كل صلاة فسدت للإمام فسدت للمأموم إلا في المستثنيات”.
الضوابط الفقهية وإطلاقاتها عند الفقهاء:
الفقهاء لم يلتزموا بالمعنى الاصطلاحي المذكور للضابط، فكما سبق في مصطلح ” قاعدة” أطلقوه على عدة أمور منها ما يؤول إلى الضابط المتعارف عليه:
1-أطلقوه على تعريف الشيء، كقولهم: ضابط السبب ما يضاف الحكم اليه للتعلق به من حيث إنه معرف للحكم أو غير معرف.
ومن ذلك قول الإمام القرافي رحمه الله: “وضابط الملزوم ما يحسن فيه لو، واللازم ما يحسن فيه اللام[15].
وهذا يؤول إلى صيغة الضابط من حيث هو ضابط، لا بقيد كونه فقهيا؛ إذ المراد هنا عموم الإطلاق.
2-إطلاقه على حد الشيء وقياسه، كقول بعضهم: “ضابط السلس الذي لا ينقض الوضوء ما عم أكثر الوقت”.
3-إطلاقه على حصر الأقسام والأنواع، كقولهم: “ضابط الشهادة عند الأداء خمسة أقسام”.
4-إطلاق على حصر شيء في عدد معين، كقولهم: “ضابط ما ينقض من قضاء القاضي أربعة في جميع المذاهب…[16]
5-إطلاقه على عدد من مسائل جزئية تشترك في حكم، كقولهم: “ضابط ما يلغى فيه اليوم ثمان مسائل، وهي؛ العقيقة واليمين والكراء وإقامة المسافر والأجل والعدة والخيار في البيع”، وهذا مما يطلق عليه مصطلح “النظائر الفقهية”.
6-إطلاقه على مستند الشيء في الحكم عليه بأنه حقيقة فيه عرفا، مثلا كقول القرافي: “ضابط الحرز العادة، والعادة في الأموال مختلفة اتفاقا…”[17]
وهذه الإطلاقات غير المقصود من حقيقة الضابط الفقهي الذي نتحدث عنه في فن القواعد الفقهية، بل المراد به القضية الكلية التي تتضمن حكما تشترك فيه فروع من باب واحد، وذلك كما سبق في المثالين قبل.
الكليات الفقهية:
من المصطلحات التي يتداولها الفقهاء “الكليات الفقهية”، وقد استمد الفقهاء هذه الصيغة من بعض جوامع الكلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كخبر: “كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط“[18]
وحديث: “كل مسكر حرام“[19]
ويمكن للمطالع تصفح كتاب الجامع الصغير للجلال السيوطي مثلا للوقوف على نماذج أخرى من الكليات الحديثية التي جرت مجرى القواعد، وهي من التقعيد بالنص.
والمراد بها ما يشبه الضوابط الفقهية من جهة تعلقها بباب واحد، وتخالفها في أنها مصدرة بكلمة كل، كما قد تطلق مرادا بها القاعدة مصدرة بلفظ كل، ولذلك قيل لها كلية نسبة إلى لفظة “كل”.
وتسمية القضية “كلية” أو ” قاعدة ” بينهما عموم وخصوص من وجه، يجتمعان في أن كلا قضية تشمل فروعا متعددة، وتنفرد الكلية بكونها تختص بباب واحد أحيانا كما تشمل أبوابا متعددة، وتنفرد القاعدة بالصيغ التي ليس فيها لفظ “كل”، ويمكن اعتبار العموم والخصوص بإطلاق بينهما، وهو واضح.
فمن شبهها بالقاعدة قول الإمام المقري في الكليات: “كل عقد فالمعتبر في انعقاده ما يدل على معناه لا صيغة مخصوصة…”[20]
ومما أشبهت فيه الكليات الضوابط الفقهية قولهم: “كل من لا يرث لا يحجب وارثا إلا الإخوة…”
فاللهم اجمع الجوامع وامنع الموانع.
آمين يا رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[1] الذخيرة للقرافي 1/190
[2] الذخيرة للققرافي 1/340 باختصار
[3] الذخيرة 9/90
[4] نفسه 2/88
[5] الذخيرة 5/374.
[6] عين المصدر 2/375 باختصار . والنص في الأصل: ” السبب الرابع في الجواهر الخوف” يشير إلى كتاب الجواهر لابن شاس رحمه الله.
[7] المصدر قبله 2/490
[8] تاج العروس من جواهر القاموس مادة: ض ب ط.
[9] حاشية البناني على شرح الجلال المحلي لجمع الجوامع 2/ 356 عند ذكر المصنف القواعد الخمس الكبرى – ط: دار الفكر بلا تاريخ.
[10] الأشباه والنظائر للسبكي 1/11 ط: دار الكتب العلمية.
[11] شرح المنهج المنتخب إلى قواعد المذهب 1/100 – 101 باختصار. تح: محمد الشيخ الأمين.
[12] المرجع قبله 1/108
[13] حاشية العدوي على شرح الخشي للمختصر 1/31
[14] يراجع مختصر ابن الحاجب الأصلي بشرح العضد وحاشية السعد 2/234
[15] عينه 1/154
[16] الذخيرة للقرافي 10/139
[17] الذخيرة 12/165
[18] هو حديث بروايات متقاربة أخرجه إمامنا مالك في الموطأ )( باب مصير الولاء لمن أعتق) والبخاري في صحيحه ( باب استعانة المكاتب..) وغيرهما.
[19] أخرجه إمامنا مالك في الموطأ ( باب ادخار لحوم الأضاحي ) والبخاري في صحيحه ( باب أمر الوالي …)
[20] الكليات الفقهية للإمام المقري ص: 125 .






