You may also like
Page 2 of 6
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
الأئمة الكرام؛
يعطف الله سبحانه عمل الجوارح على عمل القلب لارتباطهما ارتباطا وثيقا، ارتباط بين عقل المؤمن وقلبه ينظمه مقام الإحسان، باعتبارهما – يعني عمل القلب وعمل الجوارح – جناحا المؤمن في سيره إلى الله، فالإيمان بذرة والعمل الصالح ماؤها، وجل مفردات الإيمان في القرآن الكريم معطوف عليها عمل صالح، إذ الإيمان عبادة قلبية، وترجمان ذلك عبادة الجوارح، مستندنا في ذلك ما تقرر في الكتاب العزيز وبيان رسول الله ﷺ بهديه القولي والعملي في كون العمل الصالح لا يكون إلا ثمرة للإيمان، منه ما قاله الحق سبحانه وتعالى: ﴿اِنَّ اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ اُ۬لصَّٰلِحَٰتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ اُ۬لرَّحْمَٰنُ وُدّاٗۖ﴾ [مريم: 97]. إنَّه الود الذي يجلب كل مداخل الخير وهو أعلى درجات المحبة.
وكفى بذلك فخرا أن يحبك الله ويحببك إلى الناس، ولا يُنالُ ذلك إلا بإيمان ترتبت عليه أعمال مرضية تجلب الحب والمحبة، ومن حصَّل خلق الود من الإيمان والعمل الصالح تيسرت له أسباب الحياة وتهيأت له سبل السعادة والرشاد، قال رسول الله ﷺ: «إِذَا أحَبَّ اللَّهُ العَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ: إن الله قد أحب فلانًا فأحبوه. فيحبه جبريل ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله قد أحب فلانًا فأحبوه. فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في أهل الأرض»([1])؛ هذا الفيض كله من الحب والاعتبار والمودة والمكانة والألفة ناتج عن اقتران الإيمان بالعمل الصالح.
وهي من الدرجات العلى التي حكاها القرآن الكريم حين قال ﴿وَمَنْ يَّاتِهِۦ مُومِناٗ قَدْ عَمِلَ اَ۬لصَّٰلِحَٰتِ فَأُوْلَٰٓئِكَ لَهُمُ اُ۬لدَّرَجَٰتُ اُ۬لْعُل۪ىٰۖ﴾ [طه: 74]. وضابط العمل الصالح أي عمل نافع يحقق الخير للنفس والغير، العمل المؤصَّلُ بأصول الدين والممتد للحضارة التمدن، العمل الذي يحول فضاءات الحياة إلى قربات وطاعات.
إن رعاية أمور الإيمان وحماية حصنه إنما تكون بكل عمل صالح، والهدي العملي لرسول الله ﷺ مرشد للناس في ذلك، حيث اعتبرت السنة أن تبسمك في وجه أخيك عمل صالح، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر عمل صالح، وإرشادك الرجل في أرض الضلال عمل صالح تأخذ من ورائه أجرا، وإماطة الإذاية عن طريق الناس عمل صالح تأخذ به أجرا، بل من أبسط العمل الصالح وأيسره أن تفرغ في دلو أخيك فيكون لك بها أجر، وقد أتى في حديث أبي جُرَيّ الهُجَيمِيّ ﭬ قال: «أتيت رسول الله ﷺ فقلت يا رسول الله إنا قوم من أهل البادية فعلمنا شيئًا ينفعنا الله به فقال: «لا تحقرن من المعروف شيئًا؛ ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي؛ ولو أن تكلم أخاك ووجهك إليه منبسط»([2]).
النَّاسُ لِلنَّاسِ مَادامَ الوفاءُ بِهِمْ والعسرُ واليسرُ أوقاتٌ وَسَاعاتُ
وَأَفضلُ النَّاسِ ما بين الورى رَجلٌ تُقضَى على يَدِهِ لِلنَّاسِ حَاجاتُ
عن أبي ذر قال: قال رسول الله ﷺ: «تبسمك في وجه أخيك صدقة لك، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلالة لك صدقة، وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوكة
والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة»([3]).
هي كلها أعمال اجتماعية نفعية تجسد معاني التضامن، وتنمي الروابط المجتمعية التي تعود بنفعها على فاعلها، وتتجاوز ذلك لمتلقيها، وينتج عنها سعادة ورضا وأجر ومنزلة عالية.
قال أبو القاسم بن محمد بن المفضل المعروف بالراغب الأصفهاني المتوفى سنة 502هـ: فإن الإنسان من وجه في دنياه حارث، وعمله حرثه ودنياه محرثته ووقت موته حصاده والآخرة بيدره، ولا يحصد إلا ما زرعه ولا يكيل إلا ما حصده ولهذا قال الحق: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ اَ۬لَاخِرَةِ نَزِدْ لَهُۥ فِے حَرْثِهِۦۖ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ اَ۬لدُّنْي۪ا نُوتِهِۦ مِنْهَاۖ وَمَا لَهُۥ فِے اِ۬لَاخِرَةِ مِن نَّصِيبٍۖ﴾ [الشورى: 18]، كما أن في البيدر مكاييل وموازين وأمناء وحفاظا ومشاهدين وكتّابا كذلك في الآخرة ﴿وَنَضَعُ اُ۬لْمَوَٰزِينَ اَ۬لْقِسْطَ لِيَوْمِ اِ۬لْقِيَٰمَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٞ شَئْاٗۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالُ حَبَّةٖ مِّنْ خَرْدَلٍ اَتَيْنَا بِهَا وَكَف۪ىٰ بِنَا حَٰسِبِينَۖ﴾ [الأنبياء: 47].
وكما أن في البيدر تدرية وتمييزا بين النقاوة والحطام، كذلك في الآخرة تمييز بين الحسنى والآثام ﴿لِيَمِيزَ اَ۬للَّهُ اُ۬لْخَبِيثَ مِنَ اَ۬لطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ اَ۬لْخَبِيثَ بَعْضَهُۥ عَلَىٰ بَعْضٖ فَيَرْكُمَهُۥ جَمِيعاٗ فَيَجْعَلَهُۥ فِے جَهَنَّمَۖ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اُ۬لْخَٰسِرُونَۖ﴾ [الأنفال: 67].
فالعمل الصالح المؤسّس على حقيقة الإيمان، والمستمَد من قوله ﷺ: «إن لكل شيء حقيقةً، وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه»([4]).
لا يكون إلا مع الحسنى ويبارك في كيله ونفعه وصلاحه، ويسعد به صاحبه حتى لا يكون ممن قال الله فيهم: ﴿وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٖ فَجَعَلْنَٰهُ هَبَآءٗ مَّنثُوراًۖ﴾ [الفرقان: 23]، والمجتمع اليوم في ظمإ شديد إلى الإيمان المقرون بالعمل الصالح والناس مرتبون في رتب مختلفة في الجمع بين الرتبتين بعضهم سريع القبول، وآخرون جبلوا على بطء القبول، ومنهم من هو في المنزلة بين الأولى والثانية، والخير في أمتنا لا ينقطع إلى يوم القيامة، وحقّ العاقل أن يأخذ حظه من هذا العمل الصالح، عمل صالح يثمر بالبلوغ إلى آثاره وثماره.
العمل الصالح الذي يحرص على أدائه في أوقاته، ويتحسر بفواته وقد قال سيدنا ابن عمر ﭭ لما بلغه حديث فضل شهود الجنازة: «لقد فرطنا في قراريط كثيرة»([5]).
وما حضور الجنازة إلا عمل اجتماعي نبيل فيه كثير من المواساة والتضامن والمساعدة وجبر الخواطر.
وإن حصله أي العمل الصالح اعتقد لطف الله فيه وفضله وكرمه فهو يشكر ربه أن حرك جسده بهذا العمل الصالح من قيام أو صيام أو صلاة أو ذكر، ولولا لطف الله لما كان على هذه الحال، بل وهو في عمله الصالح يجأر على بابه سبحانه، يدعوه ليستمر عليه كشأن المصلي، وهو في أكمل عبادة وأفضلها “الصلاة” يدعو الله أن يهديه الصراط المستقيم، وهي بدايةُ ثمرةِ هداية الله تعالى ورعايته له، ثم ثمرة الإيمان واليقين بأن الله هو المعين وحده.
ثم بعد اعتقاده هذا اللطف والفضل والكرم يتطلع إلى ما به يطمئن قلبه أنه وُفّق فيه، وهي القرينة التي أشار إليها ابن عطاء الله السكندري حين قال: “من وجد ثمرة عمله عاجلا فهو دليل على وجود القبول آجلا”([6]).
ويكون من ثمار عمله الصالح ذلك أن صار مقبولا في الصالحين بعمله الصالح ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اَ۬للَّهُ اُ۬لذِے نَزَّلَ اَ۬لْكِتَٰبَۖ وَهُوَ يَتَوَلَّى اَ۬لصَّٰلِحِينَۖ﴾ [الأعراف: 196]، وما أحب الناس الصالحين إلا لأعمالهم الصالحة.
قال صاحب التحرير والتنوير هذا من المأمور بقوله: – يعني أن يقول الإنسان – ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اَ۬للَّهُ اُ۬لذِے نَزَّلَ اَ۬لْكِتَٰبَۖ وَهُوَ يَتَوَلَّى اَ۬لصَّٰلِحِينَۖ﴾ وَفُصِلَت هذه الجملة عن جملة ﴿وَقِيلَ اَ۟دْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَرَأَوُاْ اُ۬لْعَذَابَ لَوَ اَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَۖ﴾ [القصص: 64]، لوقوعها موقع العلة لمضمون التحدي في قوله: ﴿اَ۟دْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ﴾ الذي هو تحقق عجزهم عن كيده، فهذا تعليل لعدم الاكتراث بتألّبهم عليه واسْتنصارهم بشركائهم، ولثقته بأنه منتصر عليهم، والولي الناصر والكافي، وإجراء الصفة لاسم الله بالموصولية لما تدل عليه الصلة من علاقات الولاية فإن إنزال الكتاب عليه وهو أمي دليل اصطفائه وتوليته، وجملة ﴿وَهُوَ يَتَوَلَّى اَ۬لصَّٰلِحِينَۖ﴾ معترضة، والواو اعتراضية ومجيء المسند فعلا مضارعا لقصد الدلالة على استمرار هذا التولي وتجدده وأنه سنة إلهية، فكما تولىَّ النبي ﷺ تولى المؤمنين أيضا، وهذه بشارة للمسلمين المستقيمين على صراط نبيهم ﷺ بأن ينصرهم كما نصر نبيه وأولياءه([7]). والصالحون هم الذين صلحت أنفسهم بالإيمان والعمل الصالح.
إن أي عمل صالح يحتاج إلى تجويد وإتقان كان للدنيا أم للآخرة بل لا يكسب أي عمل صفة الصلاح إلا إذا كان كذلك، ويشمل هذا كل أنواع الأعمال التي يعتمدها المؤمن في الوصول إلى ولاية الله عز وجل، ونوّع الحق سبحانه وتعالى الأعمال الصالحة، وجعل منها للدنيا وجعل منها للآخرة ليُشبع العابد حاجته من كل أبواب البر، بل وجعل ما للدنيا إن صفا القصد فيه قربة تتقبل منه مأجورا عليها فتصبح فضاءاته جميعها محاريب للعبادة، عن أبي هريرة ﭬ قال: «بينا نحن مع رسول الله ﷺ، إذ طلع علينا شاب من الثنية، فلما رميناه بأبصارنا، قلنا: لو أن ذا الشاب جعل نشاطه وشبابه وقوته في سبيل الله، فسمع مقالتنا رسول الله ﷺ، فقال: «وما سبيل الله إلا من قتل؟ (فكأنه عليه الصلاة والسلام استنكر عليهم الاقتصار في الفهم على هذا المعنى) من سعى على والديه ففي سبيل الله، ومن سعى على عياله ففي سبيل الله، ومن سعى مكاثرًا ففي سبيل الطاغوت»([8]) وفي رواية «في سبيل الشيطان».
بين رسول الله ﷺ للصحابة الكرام أن سبيل الله واسع شامل سعة وشمولية هذا الدين وهو معنى قول الحق سبحانه: ﴿اِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْن۪ىٰ مِن ثُلُثَيِ اِ۬ليْلِ وَنِصْفِهِۦ وَثُلُثِهِۦ وَطَآئِفَةٞ مِّنَ اَ۬لذِينَ مَعَكَۖ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اُ۬ليْلَ وَالنَّهَارَۖ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْۖ فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ اَ۬لْقُرْءَانِۖ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْض۪ىٰ وَءَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِے اِ۬لَارْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اِ۬للَّهِ وَءَاخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِے سَبِيلِ اِ۬للَّهِۖ فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُۖ وَأَقِيمُواْ اُ۬لصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ اُ۬لزَّكَوٰةَۖ وَأَقْرِضُواْ اُ۬للَّهَ قَرْضاً حَسَناٗۖ وَمَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٖ تَجِدُوهُ عِندَ اَ۬للَّهِ هُوَ خَيْراٗ وَأَعْظَمَ أَجْراٗۖ وَاسْتَغْفِرُواْ اُ۬للَّهَۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞۖ﴾ [المزمل: 18]، قال القرطبي: “سوّى الله تعالى في الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال الحلال للنفقة على نفسه وعياله”([9]).
إن الأصل في نفعية هذه الأعمال ووصولها بصاحبها الدرجات السَّنية؛ أن صاحبها لا يكون على هامش سياسة الجدوى والمجتمع مهموم بهمومه يعاني أزمة التعاون على البر والفضل، كما أن وراءها إيمانا وقر في القلب، إيمانٌ صدقته الأعمال، إيمان امتد للجوارح نفعا متعديا للفرد والمجتمع.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، وحفظنا الله وإياكم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة تعالى وبركاته.
([1]) مسند الإمام أحمد 16-393.
([2]) صحيح ابن حبان، رقم الحديث: 522.
([6]) الحكم العطائية: الحكمة الثانية والسبعون.
([7]) التحرير والتنوير، (9/224).
At vero eos et accusamus et iusto odio digni goikussimos ducimus qui to bonfo blanditiis praese. Ntium voluum deleniti atque.