جارٍ تحميل التاريخ...

السيرة والتبليغ – ذ. محمد درقاوي

النسخة المكتوبة

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

الناس مجمعون أن ما فسد من الحضارة الحديثة يربط الإنسان بالأرض ويقطعه عن الله تعالى، تدفعه للتعلق بالدنيا وتصرفه عن مطالب الآخرة، بهذا يتسلع الإنسان ويساق بعيدا عن ربه، والناس كلما تقدمت بهم الحضارة أمعنوا في التكلف والمصانعة وقيدوا أنفسهم بعادات قاسية أكثرها تحجب نقاوة الفطرة وتطمس وهجها، ومالك بن نبي لما تحدث عن العوالم الثلاثة صنفها إلى عالم الأفكار وعالم الأشخاص وعالم الأشياء[1]، وفي عصر اليوم انتقل الناس من البحث عن الفكرة إلى الدوران عن الشيء، ويتطور الأمر حتى يصبح الإنسان شيئا، وهو ما يسمى تشيؤ الإنسان.

تأتي السيرة النبوية باعتبارها علما وأخلاقا، علما باعثا على العمل وأخلاقا عملية لهذا الدين، تقدم الدين، وقد أشبع العقل والقلب، فيها الدنيا وفيها الآخرة، فيها المثل الذي نظر للروح والجسد والعاجلة والآجلة، وهي التي تنقل الإنسان من عالم الأشياء إلى عالم الأفكار.

والإمام حين يرشد الناس ويقدم لهم التكاليف من جهة السيرة النبوية يكون لها عنده وعندهم طعم خاص، فهو يحث الناس عن الابتعاد عن المخالفات والخطايا انطلاقا من حدث في السيرة النبوية يكون لذلك وقع آخر في النفس.

بالسيرة يربط الأئمة قلوب الناس بربهم وبنبيهم، لأنهم حينها يجمعون بين الفكرة والعاطفة، بين نور الذهن وبصيرة القلب، وما أجل من سماها فقه النجاة وعلم النجاة.

السادة الأئمة الكرام لا يمكن أن يتحرك قلب المؤمن محبة ولا أن يتعلق قلبه شهودا لرسول الله ﷺ وهو يعظم النبي ﷺ عن تقليد موروث ومعرفة سطحية، فلا يزكى معها الإيمان ولا تتنمى معها الأخلاق، هذا والحال هكذا لا فائدة منه.

وعليه نقول إن المسؤولية تقع على الأئمة والمبلغين عموما حين يتحدثون عن محبة رسول الله ﷺ لا بد أن يبينوا امتداداتها في السلوك.

السيرة النبوية بين يدي الإمام هي التي ترد الدين إلى ميدان السلوك يسائل الإمام نفسه هل استطعت أن أقرب رسول الله ﷺ من الناس قولا وفعلا؟ لأن الحب والقرب ما أرخصهما إذا كان كلاما، لكن ما أغلاهما إذا كان قدوة وأسوة، والسيرة باعتبارها الإطار التطبيقي لكل مبلغ فهي التي تدل على وضوح مرجعيته وصلابتها، والإمام المسدد هو من يستطيع أن يحولها من خواطر إلى واقع سلوكي، وهو يعلم أن رسول الله ﷺ من ترجم القرآن لسلوك عملي، إذ كان خلقه القرآن.

وعليه نقول إن الإمام المسدد هو من ينقل السيرة في قوله وفعله وحاله من ميدان القول إلى ميدان السلوك، ويجر المبلَّغين إلى الجنة ويقدف في حياتهم النور الذي يعيشون به، ووسيلته في ذلك كتاب الله الذي جعله في صدره لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

إن الإمام الذي لا يعتمد سيرة رسول الله ﷺ في دروسه ومواعظه وتوجيهه وإرشاده يضر عينيه وبلاغه ولا يضر السيرة في شيء، ومن أغلق من الناس حياته دون سيرة رسول الله ﷺ ضر حياته وضر المحيطين به.

ثم إن ما يسعى الأئمة والمرشدون لمعالجته بالسيرة النبوية لا يختلف عما وجده الرسول الأكرم قبل البعثة وإن تغيرت الأحوال فهي نفسها مفاسد الإنسان على الأرض، فقد تجد في قرية نائية نفس التهارش على المال في مجال حضاري متطور، فـ”مكة” يومها طغت وبطرت وتنازعت ووجد من سابق فرعون في علوه وعنُوّه وطغواه[2].

لذلك كانت السيرة النبوية أعظم تصميم لبناء الإنسان وأكمل مشروع لإعادة صياغته من جديد، فهي مقصد المصلحين ومناط آمالهم ومصدر استمدادهم كلما ساءت الأحوال.

ولم تعتن أمة بحياة أنبيائها ورسلها كما اعتنت أمة محمد ﷺ بحياة نبيها بكل تفاصيلها وجزئياتها، كتب فيها الكاتبون وأبدع المبدعون ونثر الناثرون وشعر الشاعرون وألف المؤلفون بكل اللغات والألسن.

قيل بأن الوليد ابن المغيرة قال لرسول الله ﷺ: “لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك لأني أكبر منك سنا وأكثر منك مالا[3]“، ظن نفسه الأحق والأولى وهذا فكر موغل في السقم، وهو ما يسمى بتشيؤ الإنسان.

جاءت السيرة لترفع الإنسان من أن يكون شيئا ترفعه من هذا الفهم إلى فهم أطيب وأهدى باعتبارها علاجا أصيلا لطبيعة الإنسان، تنقل الوليد ومن شاكل الوليد من عالم الأشياء لعالم الوحي.

وعليه أقول إن الإمام والمبلغ يمكن أن يصلح بسيرة رسول الله ﷺ أعطاب المجتمع.

لما امتلأت الأرض بالمفاسد وابتعد الزمن بنبي تطلع الناس (الصالحون منهم) إلى قدوم من يصلح هذا الوضع، كان رجال يتمنون هذا المنصب الجليل، منهم [أمية بن أبي الصلت، قس بن ساعدة، وعمرو بن نفيل] الذي قال فيه الرسول ﷺ “كاد أن يسلم[4]“، والحق سبحانه لم يكتبها لمن كانوا يتطلعون إليها وأعطاها لرجل لم يفكر فيها، {وَمَا كُنتَ تَرْجُوٓاْ أَنْ يُّلْق۪ىٰٓ إِلَيْكَ اَ۬لْكِتَٰبُ إِلَّا رَحْمَةٗ مِّن رَّبِّكَۖ} [القصص: 86]، وما كنت ترجوا يا محمد أن ينزل عليك القرآن العظيم فتعلم الأنباء والأخبار عن الماضين قبلك والحادثة بعدك مما لم يكن بعد، ما كنت تعلم يا سيدي يا محمد يا رسول الله أن مستقبل البشرية سيكون بيدك.

الاصطفاء للمهام الدينية التبليغية ليس بالأمل فيها فقط، ولكن بالطاقة عليها، قد تجد طامحا لا يملك إلا الجرأة، وقد تجد قانعا يفتح الله به القلوب، ثم إن الوظيفة تخلق العضو، والحاجة تخلق السلعة، فطهور رسول الله ﷺ لم يكن تعسفا أو فضولا أو اصطناعا لجأ إليه رجل، بل رسالة جاءت في ميقاتها الطبعي لتقوم بدورها ووظيفتها.

فكل إمام وجد في مكان ما في زمن ما أوجده الله لينفع الناس، إذ إن وجوده لم يكن صدفة، فإن لم يكن كذلك فهو في المكان الخطأ.

والله تعالى أعطى للنبي ﷺ حق الاتباع {مَّنْ يُّطِعِ اِ۬لرَّسُولَ فَقَدَ اَطَاعَ اَ۬للَّهَۖ} [النساء: 79]، إذ الوحي لا يتنزل على أي كان، بل أكمل الناس رشدا وأسبقهم فضلا وأنبلهم خلقا وأنضجهم رأيا، والإمام من ورثة ذلك. والدنيا لم تعرف بشرا أحصيت آثاره ونقدت بحذر ومحصت بدقة كما حدث مع رسول الله ﷺ.

المستشرق الألماني شبرنجر: “إن الدنيا لم تر ولن ترى أمة مثل المسلمين فقد درسو بعلم الرجل الذي اتبعوه درسوا حياة نصف مليون رجل (500 ألف رجل)[5]“، ثم إن أصول الروايات التاريخية اعتمدت منهج المحدثين في نقل الأخبار، لذلك كانت السيرة كنوزا من الحكمة يحرم أن تضيع بين يدي المبلغين، وهي تطوي المسافات على الأئمة وغيرهم حين يجدون فيها ما تفرق في غيرها، إذ كل حدث يعالج نازلة من جهته في الأخلاق والمعاملات والسلوك.

إنه من تسديد التبليغ أن أبوابا من كتبنا وأحداثا من سيرتنا التي نفتخر بها ونعتز، لا يصح أن تعرض على الناس الآن، وهذا من تسديد التبليغ.

روى مسلم في صحيحه أن عمر ضرب أبا هريرة لما سمعه يحدث بحديث “من قال لا إله إلا الله دخل الجنة[6]” ولعله فعل ذلك لأنه وجده يحدث به من لا يفهم طبيعة هذا الكلام ويحصرها في كلمة تقال باللسان ولا عمل وراءها.

وروى ابن عبد البر أن أبا هريرة قال: “لقد حدثتكم بأحاديث لو حدثت بها زمن عمر بن الخطاب لضربني عمر بالدرة[7]“، إذ يستطيع سيدنا أبو هريرة أن يسرد مآت الأحاديث في موضوع ما، لكن رأي عمر أن يكون ذلك في مجالس خاصة، وأن يسرد للمسلمين ما يكفيهم ويعزز الخير فيهم.

قال ابن حجر في شرح قول سيدنا عليّ رضي الله عنه: “حدثوا الناس بما يعرفون”، وزاد آدم بن إياس في كتاب العلم “ودعوا ما ينكرون؛ أي يشتبه عليهم فهمه”[8]، ولذلك قد نجد من ضاع ذكره وأثره لأنه لم يكن يحدث الناس بما يفهمون أو ما يسمى بالكلام العملي، فلم تتحرك أفكارهم من رؤوسهم ولا كتبهم من رفوفهم.

إن أي فعل أو قول للخير يريد أن يتبناه الإمام يجب أن يعد له الأدوات المناسبة، ليس أعلى ولا أقل، ثم تأتي هيبته في النفوس وحضوره المادي والمعنوي في القلوب ليؤكد ما قال.

والسيرة النبوية تعرض لنا كيف كان رسول الله ﷺ واقعيا في خطابه مع المجتمع ولم يترك مسافة بينه وبين الناس، فتارة يعدهم بقصور فارس فيقول: “…والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون[9]“، ونجده مرات أخرى يردهم إلى إيمان غيبي عقدي أعلى، قال عز وجل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَےْءٖ مِّنَ اَ۬لْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٖ مِّنَ اَ۬لَامْوَٰلِ وَالَانفُسِ وَالثَّمَرَٰتِۖ وَبَشِّرِ اِ۬لصَّٰبِرِينَ [البقرة: 154]، ثم ينصرفون للعمل به، ولا يشغلهم بما لا يهمهم.

وعليه، يستفيد الإمام من هذا أنه يجب ألا يعيش على هامش سياسة الجدوى   يحدث الناس بما لا ينفعهم إذ لابد أن يتجاوز النظر إلى المهم من تعاليم الدين العملية والخلقية والمجتمع يعاني ما يعاني، أزمة التشيؤ التي أنتجت أزمة القيم.

عن أبي يوسف (تـ 182هـ) قال: سألني الأعمش (تـ 148 هـ) عن مسألة فأجبته بحديث ثم قال لي: من حدثك بهذا قلت أنت، قال: “إني لأحفظ هذا الحديث قبل أن يجتمع أبواك ما عرفت تأويله إلا الآن”[10].

أبصر أبو يوسف الفقيه ما غاب عن الأعمش الحافظ، فالسيرة فهم وعمل وتطبيق، قبل أن يكون حفظا وأحداثا، ومثال من يقرأ السيرة ولا يفهمها أو لا يعي قيمتها في تأطير الحياة كمثل من دخل معرضا للسيرة عرض فيه أغلى ما يوجد في الحياة معتقدا أو سلوكا وعملا، ثم خرج وقد اشترى سواكا وقميصا وأشياء أخرى وترك النفيس؛ ترك العبادة بثمراتهاوتزكية النفس وقيم الدين علما بأن رسول الله ﷺ جاء بالخير منذ كان، وكلكم تعلمون بأن حليمة شعرت بأن عودتها به ﷺ من مكة كانت باليمن والغنم، لا بالفقر واليتم فتعلقت به.

وهذا ما يجب أن يكون عليه حال الأئمة، أن يكونوا خيرا على قومهم يتركون بصمة وسط مجتمعهم لتكتب آثارهم.

نفعنا الله وإياكم بالكتاب المبين وبحديث وسيرة سيد المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

 



[1]  شروط النهضة، مالك بن نبي، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر المعاصر-بيروت، ص 106.

[2] فقه السيرة، الغزالي، 26.

[3]  الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، 7/80.

[4]  صحيح مسلم، رقم الحديث 2255، وابن ماجة، رقم الحديث: 3758.

[5]  الإسناد من الدين للشيخ أبو غدة، نقلا عن مقدمة “سبرنجر” على كتاب الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر.

[6]  مسلم: رقم الحديث: 31.

[7]  جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، 2/1003.

[8]  فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر، 1/225.

[9]  البخاري، كتاب الإكراه، باب من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر، رقم الحديث: 6943.

[10]  جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، 2/1029.

شاهد أيضا

تصنيفات

At vero eos et accusamus et iusto odio digni goikussimos ducimus qui to bonfo blanditiis praese. Ntium voluum deleniti atque.

Melbourne, Australia
(Sat - Thursday)
(10am - 05 pm)